السابق | رجوع | الرئيسة | التالي |
كتب- عبدالله بن محمَّد البهلاني:
نظَّم مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدِّراسات العربيَّة بالجامعة اليوم الإثنين (22/ 10/ 2012م) محاضرةً ثقافيَّةً قيِّمةً بعنوان "الحارات العُمانيَّة موردٌ للمستقبل.. تحدِّياتٌ وإمكاناتٌ وآفاقٌ جديدةٌ للحارات العُمانيَّة"، قدَّمتها الدُّكتورة بِيرجِيتْ مِيرشِينْ -المستشارة والمنسِّقة للاستشارات والتَّخطيط والإدارة في قطاع الهندسة المعماريَّة والتُّراث والسِّياحة. وتأتي هذه المحاضرة استمرارًا للدَّور الرِّياديِّ الَّذي تضطلع به جامعة نَزوى في تعميق القيم الحضاريَّة والثَّقافيَّة العُمانيَّة وإثرائها، وإكمالًا للجهد المتواصل والرُّؤى والنَّتائج الَّتي تمخَّضت عنها ندوة "الهُويَّة المعماريَّة العُمانيَّة.. بين السَّعي نحو التَّجديد والتَّمسُّك بالتُّراث" الَّتي أحيتها مؤخَّرًا وزارة الإسكان في مسقط. كما تأتي هذه المحاضرة الثَّقافيَّة لمناقشة الجوانب المتعلِّقة بتجمُّعات المباني التَّاريخيَّة "الحارات القديمة"، في إطار الخطَّة المعتمدة من قبل فريق العمل المكلَّف بمسح الحارات التَّقليديَّة العُمانيَّة وتوثيقها؛ لإعادة تأهيل التُّراث المعماريِّ العُمانيّ، ولإلقاء الضَّوء على طبيعة الحارة التَّقليديَّة وملامحها والاتِّجاهات الحديثة الرَّاهنة في التَّنمية العمرانيَّة، والتَّحدِّيات، والإمكانات المتاحة، لإعادة التَّأهيل وإعادة الاستخدام المتَّبعة في هذا الخصوص. إضافةً إلى استكشاف وجهات النَّظر والمداخل المناسبة المتعلِّقة بإعادة تأهيل الحارات، والَّتي من شأنها الإسهام في الاهتمام بتجمُّعات المباني التَّاريخيَّة.
وقد بدأت المحاضرة بتقديمٍ للدُّكتور أشرف منصور حبيب منصور –رئيس قسم الهندسة المعماريَّة بكليَّة الهندسة والعمارة بالجامعة-؛ عرَّف فيه بالدُّكتورة بِيرجِيتْ مِيرشِينْ حيث قال إنَّها باحثةٌ في تاريخ الشَّرق الأدنى والثَّقافات واللُّغات، ولديها خبرةٌ تفوق الخمسة عشر عامًا في السَّلطنة، بما في ذلك الحقل التَّعليميِّ والبحث والمشورة الأكاديميَّة. كما أنّها خبيرةٌ في التُّراث والثَّقافة العُمانيَّين، مع تركيز الاهتمام على تاريخ التَّجمُّعات المعماريَّة التَّاريخيَّة "الحارات العُمانيَّة". واستهلَّت الدُّكتورة بيرجيت حديثها بمقدِّمةٍ عن مفهوم التُّراث وأنواعه، وأوضحت أنَّ التُّراث له ثلاثة أنواعٍ أوَّلها التُّراث الطَّبيعيّ، وثانيها التُّراث الثَّقافي المادِّي، وثالثها التُّراث الثَّقافي غير المادي. كما أشارت الباحثة إلى أهداف إدارة التُّراث، ومن هم المعنيُّون بهذا الجانب؟ والأدوات المستعملة لذلك؛ كلُّ ذلك نحو مدخلٍ تكامليٍّ للإدارة المستدامة للتُّراث والمحافظة الممنهجة للموارد التُّراثيَّة؛ مثل المناظر الطبيعيَّة الثَّقافيَّة. ثمَّ انتقلت إلى الحديث عن الحارة العُمانيَّة تعريفًا ووصفًا، مبيِّنةً أنَّ التُّراث المعماريَّ في عُمان إمَّا أن يكون سكنيًّا أو حكوميًّا أو دينيًّا أو عسكريًّا. قالت إنَّ الأحياء التَّاريخيَّة العُمانيَّة (الحارات) كانت أحياءً سكنيَّةً متعدِّدة الاستخدام، وإنَّ أعدادًا كبيرةً من العُمانيِّين هجروها؛ وذلك بسبب مجريات التَّنمية الحديثة. ومع ذلك فإنَّ الحارات المهجورة تشكِّل إرشيفًا تراثيًّا مهمًّا ومثريًّا للسَّلطنة. وأوضحت ميرشِينْ أنَّ مشروع حصر تجمُّعات المباني التَّاريخيَّة "الحارات القديمة" الَّذي تنفِّذه وزارة التُّراث والثَّقافة، والَّذي تمَّ من خلاله مسح الحارات التَّقليديَّة العُمانيَّة وتوثيقها في فئاتٍ مختلفة أوجد الأسس اللَّازمة للإطار التَّشريعيِّ الخاصّ بحمايتها.
وخلال حديثها أعطت الدُّكتورة تعريفًا ووصفًا للحارة بصفتها وحدةً مكانيَّةً، وكيانًا اجتماعيًّا، وكيانًا وظيفيًّا، وهندسةً معماريَّةً، ووحدةً دفاعيَّة. وأضافت أنَّ الحارة العُمانيَّة تتكوَّن من عدَّة مكوِّنات رئيسة هي المساكن، والمنشآت الدِّفاعيَّة، والمرافق الدِّينيَّة، والمرافق الاجتماعيَّة، والمرافق المفردة، إلى جانب الفلج ومنشآت الصَّرف الصِّحي. وبذلك تصف الباحثة ميرشين الحارة بأنَّها بمجموع مكوِّناتها من المباني تماثل الكائن الحيّ في تكوينه. وتطرَّقت إلى تنوُّع الحارة العُمانيَّة إلى حاراتٍ محاطةٍ بالأسوار مقابل الحارات غير المحاطة بالأسوار، والقصور الكبيرة المنعزلة مقابل النَّسيج المتضامّ للمساكن الصَّغيرة. وأشارت إلى موادّ بناء الحارة العُمانيَّة، وقالت إنَّ (50%) من الحارات العُمانيَّة مبنيَّةٌ بالطِّين والطُّوب، بينما (24%) منها مبنيٌّ بالحجر، و(26%) مبنيٌّ بخليطٍ من الطُّوب والطِّين والحجر.
وفي المحور الثَّاني من محاضرتها، تحدَّثت الدُّكتورة بيرجيت عن عمليَّات الَّتحوُّل في تجمُّعات المباني التَّاريخيَّة، وأوضحت أنَّ هناك تغييراتٍ رئيسةً في هذه التَّجمُّعات وحاراتها، وقد نجمت هذه التَّغييرات عن عمليَّات التَّنمية الحديثة واللاحقة، كمتطلَّبات معايير الحياة العصريَّة، ودخول السّيَّارة، والجوانب الأخرى المتعلِّقة بالبنية الأساسيَّة. وقالت إنَّ ذلك أدَّى إلى استخدام مقادير أوسع وأعلى للفضاء المحيط والطَّاقة، والهياكل الخرسانيَّة، والتِّقنيات والأساليب المستوردة إلى غير ذلك من المستجدَّات. كما تحدَّثت الباحثة عن أهميَّة إصلاح حال الحارات التَّاريخيَّة وتكثيف الجهود نحو الحفاظ عليها، فهناك فعلًا عمليَّات خرابٍ في الحارات المهجورة فقد أصيبت بأضرارٍ هيكليَّة، كما أنَّ المخاطر تهدِّد سلامة الزُّوار، إلى جانب التَّهديدات المرتبطة بالصِّحة والسَّلامة.
وأشارت ميرشين إلى الجهود الحثيثة والمبادرات السَّخيَّة الَّتي تقوم بها الحكومة العُمانيَّة حاليًّا في سبيل الحفاظ على الحارات العُمانيَّة وإعادة تأهيلها، كما ذكرت المساعدة القيِّمة الَّتي تأتي من المبادرات الخاصَّة. فيما شدَّدت على أنَّ إعادة البناء السَّليم والصِّيانة المستمرَّة من أجل المحافظة طويلة الأجل على الحارات تتطلَّب مهاراتٍ ومعرفةً احترافيَّة، كذلك ينبغي الأخذ بعين الاعتبار عامل الوقت وعامل التَّكلفة، تطوير المفاهيم الاقتصاديَّة والماليَّة لتمويل وصيانة المشروع، إلى جانب السَّعي الدَّؤوب للنَّجاح الاقتصاديِّ دون المساس بسلامة الحارات التَّاريخيَّة. ومن جهةٍ أخرى نبَّهت الدُّكتورة بِيرجِيتْ مِيرشِينْ إلى ضرورة توظيف الحارات العُمانيَّة والمباني التَّاريخيَّة والمدن للحفاظ عليها وصونها وإبقائها سليمةً، وقد ضربت لذلك أمثلةً من أوروبا والشَّرق الأدنى، كمبنى "البارادور" في إسبانيا وهو عبارةٌ عن فندقٍ في مبنًى تاريخي، أمَّا في ألمانيا فقد عمل الألمان على إعادة استخدام بعض الحصون والقلاع الألمانيَّة كفنادق ممَّا ساعد في تمويل صيانتها، إضافةً إلى قرية "أمّ قيس" في الأردن وهي قريةٌ تراثيَّةٌ يعود تاريخها إلى الفترة العثمانيَّة؛ تمَّ نقل سكَّانها إلى الجزء الجديد من المدينة، وتمَّ بشكلٍ جزئيٍّ إعادة استخدام المباني القديمة لأغراضٍ سياحيَّة. واعتبرت ميرشين مدينة "فاس" بالمغرب مثالًا على نجاح مشروع إعادة تأهيل المناطق الحضريَّة من حيث تحسين نوعيَّة الحياة وتعزيز الاقتصاد المحليّ.
وألقت الباحثة في محاضرتها الضَّوء على التَّحدِّيات والآفاق والرُّؤى الَّتي تواجه مسيرة إعادة تأهيل الحارات العُمانيَّة وكيفيَّة استغلالها، حيث دعت إلى التَّخلِّي عن تخريب الحارات وزيادة الوعي المجتمعيّ بأهميَّتها للأمَّة. أشارت إلى أنَّ القلاع والحصون كانت ولا تزال المرتكز الأوَّل في المبادرات الحكوميَّة للمحافظة على التُّراث بخلاف الحارات العُمانيَّة. وقالت إنَّ تزايد الوعي المجتمعيَّ بأهميَّة الحارات العُمانيَّة نتج عنه تبنِّي العديد من المشاريع الحكوميَّة لإعادة التَّأهيل. كما تطرَّقت إلى مسألة الملكيَّة في الأحياء السَّكنيَّة وكيف تشكِّل تحدِّيًّا أمام إعادة تأهيلها. وأوضحت أنَّ كيفيَّة إعادة استخدام الحارة في المجال السِّياحيّ يدفع للتَّحوُّل في الوعي بالمكان وطريقة استخدامه. ومن بين الآفاق والرُّوى الَّتي طرحتها الباحثة ميرشين إدراج الخدمات وفق منظور المجتمع المحلي وإعادة الاستخدام المجتمعي، وتطوير مكوِّنات البنى الأساسيَّة والسَّكنيَّة، وأهميَّة النَّهج التَّشاركيِّ لمشاريع إعادة التَّأهيل، واستراتيجيَّة التَّنمية المتكاملة، الَّتي تشمل جميع أصحاب المصلحة.
وختمت الدُّكتورة ميرجيت محاضرتها بالتَّأكيد على أهميَّة الحفاظ على الإرث والَّتاريخ العُمانيِّ العريق المتمثِّل في الحارات العُمانيَّة، مشيرةً إلى أنَّ المتاحف والسِّياحة الَّتي تستخدم من خلال المتاحف هي مجرَّد خياراتٍ بين غيرها من الخيارات الأخرى، ونبَّهت على الحاجة إلى إقامة توازنٍ بين المنافع الاقتصاديَّة لكيفيَّة إعادة الاستخدام لأغراض سياحيَّةٍ وبين الحفاظ على القيمة الجوهريَّة وروح المكان، إلى جانب البحث عن تجربةٍ ثقافيَّةٍ حيَّةٍ وديناميكيَّةٍ، خارج إطار التَّنميط والتَّحجُّر.