السابقرجوعالرئيسةالتالي


من المقرن ملتقى النيلين بالعاصمة السودانية الخرطوم

سافر ففي الأسفار خمس فوائد(3):

 

من المقرن ملتقى النيلين بالعاصمة السودانية الخرطوم

سليمان بن سالم الحسيني

مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي،

salhusseini@unizwa.edu.om 

 

المقرن هو مكان التقاء النيل الأبيض القادم من أوغندا والنيل الأزرق القادم من أثيوبيا ليشكلا، بعد ذلك مجرى واحد يتدفق شمالا باتجاه مصر منتهيا في البحر الأبيض المتوسط، والمقرن هو الظاهرة البيئية الأكثر جذبا ومتعة وإعجابا، والمعلم البارز الذي يميز الخرطوم  التي يقسمها النيل- أو النيلين- إلى ثلاثة أجزاء أشبه ما تكون بمثلثات تلتقي رؤوسها عند المقرن وجزيرة توتي. جزيرة توتي التي تشكلت نتيجة انقسام النيل الأزرق إلى قسمين يتجه أحدهما يمينا ويتجه الآخر شمالا نحو ثلاثة كيلومترا، ثم يلتقي كل واحد منها عموديا مع النيل الأبيض. والجزيرة تضم حضورا بارزا وطلة بهية إلى المشهد الساحر الجذاب كقرية ريفية  تتأزر ثلاثة أنهر عذبة دفاقة.

النيل هو القصة الكاملة والحكاية كلها في هذا الجزء من العالم؛ عليه قامت الحضارات القديمة، وعلى ضفافه عاش الإنسان آلاف السنين يروي عن النيل القصص والأساطير، ومنه يأكل سمك (البوطاية) طريا، وفيه يسبح ويستحم، ومن مائه  يشرب فيروي ظمأه، وعلى جانبيه يزرع ويسقى ويحصد (عيش الحقل) ويأكل (الدخن) وخيرات أرض مباركة تؤتي أكلها كل حين، وعلى اقتسام ثروته المائية تثور الخلافات وتنشب النزاعات بين الدول النيلية. هنا في السودان يسمون النيل بحر، وهم عندهم حق، فهو بحر دافق بالحياة؛ ولولا النيل لكان المكان صحراء جرداء كصحراء الربع الخالي أو الصحراء الكبرى لا توجد بها حياة وغير صالحة لعيش الإنسان. عندما وقفت أمام بحيرة سد جبل أوليا الذي تم إنشاءه في 1918م صانعا أمامه بحيرة يزيد عرضها على 2كم خلت نفسي أقف أمام صفحة من الماء تمتد إلى آخر الأرض ليس لها نهاية، أو واقف في ساحل العذيبة أو السيب أتأمل بحر عُمان يلتقي في البعيد مع أفق السماء الواسعة.

 أتيحت لي زيارة السودان ورؤية ملتقى النهرين في أثناء مشاركتي في مؤتمر نظمه اتحاد الجامعات العربية بالتعاون مع جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا.

وجامعة السودان يدرس بها (65) ألف طالب، وتعود نشأتها إلى عام 1950 تحت اسم معهد الخرطوم الفني، وتم تحويله إلى جامعة عام 1990. جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، طبعا ليست الجامعة الوحيدة في هذا البلد، فإلى جنبها تقف شقيقتها جامعة الخرطوم، وغيرهما كثير، ولا عجب؛ فالشعب السوداني يحب العلم واشتهر السودان بعلمائه ومفكريه وشعرائه وأدباءه على مر التاريخ. فيبدأ الاهتمام بالتلاميذ في هذا البلد العريق منذ صغرهم على أيدي المعلمين والشيوخ، إذ تنتشر إلى جانب المدارس النظامية، الزوايا التي تعنى بالصغار ويتفرغ لتعليمهم أساتذة ومعلمون يولون نشر العلم والمعرفة جل اهتماهم. زاوية الشيخ الياقوت في مدينة جبل أولياء، أحد المراكز التي يجتمع بها التلاميذ من مختلف الأعمار ومن أماكن كثيرة من السودان حيث يتم توفير المسكن والمأكل والرعاية لهم وللمعلمين اللذين يعلمونهم القرآن الكريم والفقه والكتابة. ومن هذه الزاوية يلتحق الطلبة بالمعاهد الدينية ومنها ينطلقون إلى الجامعات والكليات.

الحياة في السودان تبدأ في الصباح الباكر وتستمر إلى ساعة متأخرة من الليل، والسودانيون نشطون يحبون العمل والسعي، والأسواق مليئة بشتى أنواع المنتجات، وغاصة بالباعة والمتسوقين والمركبات. زرت سوق (الخرطوم بحري) الذي يفوح منه عبق البن المحمص والتوابل، وفي (الخرطوم قبلي) زرت السوق العربي والسوق الأوربي الذي أسسه اليونانيون في منتصف القرن العشرين كما قيل لي. كما زرت سوق مدينة الكلاكلة (أو سوق اللفة) الذي يعد أكبر سوق بعد السوق العربي بالخرطوم. وفي سوق أم درمان تبضعت الصمغ السوادني، شقيق اللبان الظفاري، واشتريت عصا سودانية مرصعة بالعاج لا بد أنها ستبز كل العصي التي تزاحمها الحضور في السبلة العُمانية.

 أم درمان هي مدينة التراث في العاصمة الخرطوم، بها جامع النيلين، وجامعة القرآن الكريم، وقبة محمد المهدي، وساحات المعارك التي خاضها السودانيون ضد الإنجليزي المستعمرين. قيل لي أن أم درمان سميت بهذا الاسم نسبة إلى الملكة درمان الحاكمة في مملكة نبتا منذ ما يزيد على ألف عام.

تنوع البيئات وأسلوب حياة الإنسان في السودان انعكس على الموروث التراثي والفلكلور الشعبي السوداني؛ ففي القرية التراثية التي أنشأها الدكتور الجميابي محمد وتشرف عليها (منظمة أنا السودان الخيرية) ترى إلى جانب الأدوات والمواد التراثية، أنواع مختلفة من بيوت القبائل السودانية: البقارة والجمالة والنيلية وبيوت دارفور والبيوت الأهرامية وبيوت الشعر والطوب والقش. كما تعرض أشكال متعددة من الرقصات الفلكلورية المعبرة عن حياة الأدغال والغابات والحرب والأفراح والسلام المصحوبة بالسيوف والطبول والأدوات الموسيقية التقليدية والحديثة، وتقدم رقصات الأطفال وموشحاتهم وأناشيدهم. كما تقدم القرية التراثية صورًا متعددة عن كرم الضيافة بالطريقة السودانية العربية الأصيلة حيث تقدم القهوة والتمر ولحم (الأجاشي) اللذيذ.

الذي يتحدث عن السودانيين لا بد أن يتحدث عن حسن خلقهم وسعة صدورهم وطول بالهم وطيب لقياهم وحفاوتهم وكرمهم وترحيبهم بالغريب.  نشأ هذا الانطباع لدي منذ أن تقدمت بطلب تأشيرة في السفارة السودانية في مسقط حيث وجدت حسن الاستقبال وتم منحي التأشيرة خلال أقل من ساعة واحدة، واستمر معي نفس الشعور حتى صعودي الطائرة في مطار الخرطوم عائدا إلى بلدي لتبقى في نفسي ذكرى طيبة جميلة قضيتها في بلد طيب جميل ومع شعب عربي عريق شقيق يستحق التقدير والاحترام.

*المقال من ملحق إشراقة العدد 105 ،مارس 2016م



© 2024 جامعة نزوى