السابقرجوعالرئيسةالتالي


التسامح والمودة وكرم الضيافة التي لقيها الرحالة الأوربيون والأمريكيون الذين زاروا عُمان في القرنين التاسع عشر والعشرين(3)*

التسامح والمودة وكرم الضيافة التي لقيها الرحالة الأوربيون والأمريكيون الذين زاروا عُمان في القرنين التاسع عشر والعشرين(3)*

الدكتور سليمان بن سالم الحسيني

مركز الخليل للدراسات والبحوث

ترك  الإرساليون الأمريكان الذين أنشأوا مركزا في مسقط في 1893 وكانوا يجوبون قرى عمان ومدنها الكثير من الكتابات عن كرم العُمانيين وتسامحهم وشجاعتهم ونبلهم.

وقد ذكر بيتر زويمر مؤسس مركز الإرسالية في مسقط أن الحرية التي تمتع بها الإرساليون الأمريكان في التنقل في ربوع عُمان والتحدث إلى العُمانيين والتسامح مع أصحاب الديانات الأخرى الذي يسود البلد من أهم العوامل التي شجعت الإرساليين الأمريكان البقاء في عُمان.

وقد أكد جيمس كانتاين، وهو أحد مؤسسي الإرسالية الأمريكية وعمل في مسقط لعدة سنوات، على وجهة نظر بيتر زويمر، فقد قال جيمس كانتاين: "يجب التذكير أن عرب عُمان من السلطان وغيره هم أكثر سكان الجزيرة العربية لطفا مع الغريب". وقد كتبت الطبيبة سارة هوسمن التي عملت في عُمان أكثر من خمسة وعشرين سنة: "يؤسفني القول أن مسقط وبسبب جوها الحار جدا وانتشار الملاريا بها ليست مكانا شائقا للإرسالي الأمريكي. فعندما شاهدت لأول مرة بعضا من جبال عُمان القاحلة وشواطئها الصخرية، تساءلت كيف يمكن أن يعيش الإنسان في هذا المكان؟ ولكن بعدما تعاملت مع الناس وتعلمت لغتهم أدركت أنه في هذا المكان الصعب من الجزيرة العربية تعيش سلالة عربية نبيلة. هم صغيري البنية وقصيري القامة ووجوههم صغيرة، وطيبون جدا ومتجاوبون أكثر من غيرهم من سكان الجزيرة العربية. فغرفة العمليات التي يديرها الطبيب ديمس تعطي الشخص الفرصة لدراسة أنواع العرب القادمين من أماكن متعددة من الجزيرة العربية، والعُمانيون الذين يأتون لإجراء العمليات هم الأكثر بشاشة وشجاعة، فقد خلعت سنا لطفل عُماني صغير لم يتجاوز عمره السبع سنوات ولم يبكي... وقد التقيت بالكثير من المرضى الذين يأتون من أماكن متعددة من البلد بالرغم من أن عملي انحصر خلال السنوات التسع الماضية على مسقط ومطرح، ونساء هاتين المدينتين يمكن أن تحوزا على الجوائز الطبية على مستوى الجزيرة العربية في النظافة. ففي العيادة الصباحية يمكن تمييز المرأة العُمانية من مظهرها من بين النساء العربيات الأخريات".

 وفي زيارتها للسيب كتبت الطبية سارة هوسمون عن النساء التي التقت بهن وتحدثت إليهن قائلة: "لقد وجدنا أنَّ نساء السِّيب متفتحاتٌ وطيِّباتُ جدًّا وهن عاملات جادات، وكن طيبات ورحبن بنا وطلبن منا البقاء بينهن فترة أطول".

وكتبت فاني لتون عن مشاعرها وأحاسيسها عندما وصلت أول مرة إلى مسقط في عام 1911م، وكيف أن تلك المشاعر والأحاسيس قد تغيرت بعد تعاملها مع العمانيين وتواصلها معهم. فقد قالت: "عندما وصلت أول مرة مسقط غرقت في الرعب والخوف، فقد عشت قبل ذلك مدة طويلة في البحرين حيث أصبح المكان والناس مألوفين لي، ولكن هنا في مسقط كان كل شيء غريب. فقد نظرت إلى الجبال الجرداء المحيطة بالمكان وشعرت بأني كطفلة تحاول أن تنقفها بقشة، ولكن بعد أن عشت هنا لأكثر من ست سنوات أصبحت لا أخشى الجبال الجرداء. فقد عبرت مرارا الممرات الصخرية بتلك الجبال منتقلة إلى القرى في الجهة الأخرى، وأصبحت معروفة لدى الناس الذين يرحبون بي أينما اتجهت، ولم يعد الأطفال يهربون مني وإنما أصبحوا عندما يرونني يصيحون (جاءت نورة، "لماذا غبتي عنا لمدة طويلة؟ لقد اشتقنا إليك وسألنا عنك). لقد رجعت من الإجازة بقلب سعيد، سعيد بالعمل مرة أخرى بين هؤلاء الناس، وهم استقبلوني بحفاوة".

كما أن الطبيب بول هاريسون الذي عمل في عٌمان لأكثر من عشر سنوات وزار الكثير من المناطق أقر بنبل العُمانيين وتقديرهم للآخر، فقد قال: "لا يوجد عرب في أي مكان آخر مستجيبون للأخوة الإنسانية مثل العُمانيين، وقد جعل الرب ذلك مفتاحا لفتح الأبواب المغلقة منذ مدة طويلة، فعُمان تشكل فرصة تعجز الكلمات عن التعبير عنها، فأكثر الناس ودا في الجزيرة العربية وأكثرهم تقبلا روحيا يعيشون هنا". كما أن بول هريسون الذي أتيح له دخول الكثير من البيوت في عُمان كتب عن كرم العُمانيين  قائلا "لا يوجد عرب كالعُمانيين، وأشك في أن كرمهم يوجد له نظير في أي مكان في العالم، فالكرم موجود وبنفس المستوى في كل مكان. فقد شربنا الشاي والقهوة في بيوت الأثرياء وشربناها في بيوت الفقراء، وبشاشتهم عند اللقاء تترك أثرها في الذكرى أمدا طويلا بعد الرحيل".

وأشار الإرساليون الأمريكان كذلك إلى أن العُمانيين متمسكون بالإسلام في الوقت نفسه الذي يظهرون فيه تسامحا لأصحاب الديانات الأخرى. فقد قال الطبيب بول هاريسون "العُمانيون متدينون بصدق، وقد لا نرى عربا في مكان آخر دينهم يعني لهم ما يعني لهؤلاء الناس،  ومن السهل الحديث إليهم عن المسيح لأن عقولهم ستقفز بسرعة إلى الجانب الديني وهم ليسوا جاهلين بهذا الموضوع". وأشار المنصرون الإمريكيون كذلك إلى أن العمانيين ومع تمسكهم بالإسلام غير متشددين مع أصحاب الديانات الأخرى. فقد قال الطبيب بول هاريسون  "فربَّما لا يوجد مكانٌ في شبه الجزيرة العربيَّة مثل عُمان؛ النَّاس فيها صادقون في المحافظة على الصَّلاة، وأوامر الإسلام، وقواعده الأخرى. لكن هؤلاء النَّاس أنفسهم طيِّبون تِّجاه الإنجيل، والعديد منهم راغبون في شرائه وقراءته، بل وهم قادرون كذلك على قراءته".  

كما ذكر الإرساليون أن العُمانيين قادرون على المبادرة بطرح الأفكار الدينية ومناقشتها من وجهة نظرهم مع المنصرين الذين يختلفون معهم في التوجه الديني؛ فقد قال القسيس الأمريكي ويرسم: "إنَّ العرب مستعدُّون للدُّخول في جدال. فقد كان هذا واضحًا بشكلٍ أخصّ في المسفاة [قرية تابعة لولاية بوشر]، حيث أحضر عربيٌّ إلينا القرآن؛ متلهِّفًا لإثبات نقطةٍ في ذهنه. وكانت نقطة الحوار الَّتي أنشأها هي أنَّ جميع الأنبياء معصومون من الخطيئة؛ لأنَّهم أنبياء. وبما أنَّ محمَّدا كان نبيًّا فهو كذلك كان بدون خطيئة. وخلال النِّقاش أصرَّ على أنَّ اسم محمَّد قد ذكر في الإنجيل. وأحالنا إلى (يُوحنَّا 14:16)، حيث إنَّ (المعزى) بتغييرٍ حاذقٍ للكلمة في اليونانيَّة قيل بأنَّه يعود إلى محمَّد. وعندما أُخبر بأنَّه على خطأٍ؛ أحضر القرآن وأخذ يتلو فقرةً ذات صلةٍ بهذا، إلَّا أنَّ بائع الأناجيل أصرَّ على أنَّ محمَّدا لا يمكن أن يوجد في أيِّ مكانٍ في الإنجيل. فقال: إذن إنجيلكم قد بُدِّل. لا بد أن يكون ذلك في الأصل؛ لأنَّ القرآن قد قال ذلك، وبما أنَّ القرآن قد نزل مباشرةً من السَّماء، فإنَّ محتواه لا يمكن أن يجادل فيه. ثمَّ أخذ في الثَّناء على محمَّد والقرآن قائلًا إنَّه نورٌ، وأنَّه آخر الأنبياء، وأنَّ اسمه مكتوبٌ على أبواب الجنَّة، إلى آخره. من هنا نرى أنَّ المسلم لا يمكن أن يدخل إلى مملكة الرَّبّ عن طريق المناقشة، فإيمانهم بالقرآن قويٌّ للغاية بحيث لا يمكن لشيءٍ أن يزعزعه، إنَّ إيمانهم أعمى. إنَّهم يرون أنَّ أيَّ شيءٍ ورد في القرآن فهو صحيحٌ؛ لأنَّ القرآن قد قال ذلك".

كما ذكر المنصرون كذلك أن العُمانيين لا يحصرون نقاشهم في المواضيع الدينية ولكن يتعدونها إلى المواضيع التاريخية والطبية وغيرها. فقد علق القسيس ويرسم على نقاشات دارت مع بعض الأفراد في أثناء جولة قام بها في قلهات "لقد بعنا عدد من نسخ الإنجيل إلا أن الناس كانوا يسألون عن كتب التاريخ والشعر والطب، وكانوا متشوقين لمعرفة أخبار الأمم خاصة العراق وتركيا وسوريا".

الخاتمة:

الخلاصة، في ليلة حارة جافة من ليالي شهر إبريل 1891 كتب القس توماس فالبي فرنش من البيت الذي نزل فيه في مسقط: "إنني سعيد بسقف البيت الذي أنام عليه برغم توقف الهواء وصعوبة التنفس، والقمر المتقد، والمنظر الجامد للبحر وقوارب الصيد، والمنظر الذي تضيفه أسطح البيوت البيضاء على الخلفية التي تملئها قمم الجبال الجرداء، ونخلة هنا وأخرى هناك والقلاع التي تعانق السماء. في الليل أحاول أن أتجنب صوت المؤذن من المسجد المجاور ينادي ’محمدا رسول الله‘، يرفع بها صوته نغمة مميزة خاصة لي أنا، بلا شك. إني أتساءل لماذا يسمحون لي بالدخول إلى مساجدهم بين وقت وآخر، إنني بحق لا أعرف الإجابة".

وقد جاءت الإجابة على هذا السؤال من منصر آخر عاش في نفس المكان الذي عاش فيه توماس فالبي فرنش وتعامل مع نفس الناس ولكن بعد عشرين سنة تقريبا. إنها المنصرة فاني لتون التي قالت عن العُمانيين "إنهم لم يتقبلوا الرسالة التي جاء بها المنصر، ولكنهم متسامحون معه كشخص". إن لتون لا شك تقصد أن العمانيين متسامحون مع الغرباء الذي يزورون عمان ويعيشون فيها. إن هذه المقدرة على التعامل مع الغير وتقديره هي التي أكد عليها رسول الله محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أربعة عشر قرنا عندما أرسل أحد صحابته إلى قوم من العرب، فرجع إلى رسول الله وقد أهان أولئك الناس كرامته سبا وضربا فقال له رسول الله:(لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلاَ ضَرَبُوكَ(. وهذه المواقف تدل أن كرم العُمانيين وتسامحهم وحسن تعاملهم مع الضيف والغريب القادم إلى بلادهم خاصية أصيلة عرفوا بها عبر التاريخ، وعرفتهم بها أمم الأرض، وأقرهم عليها رسول الهدى ومرشد الإنسانية عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن وجهة نظرنا العُمانيين اليوم فخورون بهذه الصفات والأخلاق ويحرصون على غرسها في الأجيال الناشئة من أبنائهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

* ورقة بحثية مقدمة في المؤتمرُ السادس للفكر الإباضي الذي عقد تحت عنوان "الفكر الإصلاحي للمدارس الفكرية الإسلامية في العصر الحديث"، 1-3 يونيو 2015، بمعهد المخطوطات الشرقية بالأكاديمية العلمية الروسية بمدينة سانت بطرسبيرج بجمهورية روسيا الاتحادية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

*المقال من ملحق إشراقة العدد 103 ، ديسمبر 2015م



© 2024 جامعة نزوى